مدينة منبج
تقع
منبج في الشمال الشرقي من حلب و تبعد عنها /80/ كم و تبلغ مساحتها حالياً
حوالي /20/ كم مربع يقطنها /150/ ألف نسمة و هم مزيج من الغالبية العربية
و الشركس و الأكراد و التركمان و الأرمن , تشتهر منبج بسهولها الخصبة و
يعمل سكانها بالزراعة و تربية المواشي و فيها بعض المعامل و الحرف الصغيرة
و كذلك التجارة فهي تقع على طريق الجزيرة العلوي و على مفترق الطرق بين
الداخل و الساحل , كما تشتهر بأقنيتها الرومانية الشهيرة التي تدعى حالياً
"تترب" و عددها /22/ و قد جفت كلها اليوم و كانت تروي حوالي /300/ هكتار
من الأراضي المنبسطة
منبج مدينة عريقة ازدهرت و اندثرت
أكثر من مرة و عادت ..... لها جذور حضارية و ثقافية عميقة في التاريخ و
كانت محطة تجارية هامة على طريق نقل البضائع ما بين بلاد الرافدين و طرق و
شواطئ البحر الأبيض المتوسط و فلسطين و مصر أيام الإمبراطورية الآشورية و
خاصة في أيام ملوكها العظام نبوخذنصر و شمنصر الذين جعلا من منبج قاعدة
عسكرية و تجارية لنقل البضائع و خاصة خشب الأرز إلى بلاد آشور , و بقيت
حتى أيام الرومان مركزاً تجارياً لتسويق البضائع إلى البادية و بلاد
الرافدين و مركزاً عسكرياً لحماية القوافل التجارية .
عرفت عند الآشوريين باسم " مابيجي " و ذكر اسمها في الألواح المسمارية ب
"دبامبيكي" و بالسامية " منبوج " و تعني بالسريانية "المدينة المقدسة" و
ذكرها الإغريق باسم " بنبج " و أصبح اسمها أخيراً هيرا بوليس , كما جاء
ذكرها في اللغة النبطية باسم " مامبوجيتا " و أصبح اسمها أيام الرومان "
بامبوك " و يذكر المؤرخ الروماني المعروف لوتشيانو أنه كان يوجد في فناء
معبد الآلهة " آثار غاتيس" عمود حجري شاهق يجلس عند قاعدته كاهن يستقبل
التقدمات و الهدايا للآلهة بينما يجلس في أعلى العمود كاهن آخر يصلي من
أجل مقدمي الهدايا الذين يذكر له اسمهم الكاهن الموجود في أسفل العمود , و
هي تقاليد سريانية انتقلت من منبج إلى الأديرة و الكنائس السورية الأخرى
لاحقاً .
تألقت منبج كثيراً أيام الرومان و أصبحت قبلة حج للناس و موطناً للآلهة "
أثار غاتيس" السورية و التي تقابل عشتار لدى البابليين , و صارت بمثابة
فاتيكان الشرق , ساده الرخاء و فيه تزوج الإمبراطور جوستنيان من الأميرة
المنبجية السريانية تيودورا و أصبحت أيام الامبراطور كومستانس عاصمة
لمنطقة الفرات ثم أصبحت أيام البيزنطيين مركزاً "للمونوفيزيقيين" أي أتباع
الطبيعة الواحدة للسيد المسيح و التي قادها مطران منبج السرياني يعقوب
البرادعي عام/451/م أثناء المجمع المسكوني في أفاسوس بجانب آزمير . و كانت
منبج مركزاً عسكرياً متقدماً للرومان لتجميع القوات الذاهبة إلى قتال
الفرس , و أقام فيها الإمبراطور جوليان عام /263/م لأيام عدة أثناء ذهابه
لقتال الفرس حيث قتل في المعركة .
اشتهرت منبج بمعبدها و بحيرتها المقدسة , أما المعبد فكان يقع في مدخل
البلدة و على يسار الطريق العام القادم من حلب . و ذكره "لوقيانوس" يقول :
" إنه معبد فخم و كبير (حوالي 60*60متر) , عظيم في بنائه يقع بجانب
البحيرة المقدسة له باحات و أروقة عالية و بوابات و تماثيل ذهبية ,أما
البحيرة (قطرها حوالي 500 متر) فتمنع فيها السباحة و غسل الثياب , و لم
يبق من المعبد و البحيرة أي أثر الآن فقد أصبحت البحيرة ملعباً لكرة القدم
و بجانبها حديقة عامة كان ينتصب عليها المعبد .
كانت منبج محط أنظار الرحالة الأوربيين فزارها ماندريل عام 1699م و بول
1738م وزاخار عام 1879م و كومون عام 1907م , و لكل من هؤلاء انطباعاته و
دراساته الخاصة عن البلدة و حضاراتها المتعاقبة و خاصة ما قدمه الرهبان و
الأساقفة السريان الذين سكنوها حتى القرن الثاني عشر و اهتموا باللاهوتو
الفلك و الفلسفة و الترجمة
دخل المسلمون منبج سلماً بموجب إتفاقية مع قبائل تغلب المسيحية و التي
كانت تعيش حول البلدة و فيها وذلك أيام أبو عبيدة بن الجراح عام /16هـ/ ,
حتى جاء يزيد بن معاوية فألحقها بقنسرين لتصبح قاعدة دفاعية متقدمة و
مركزاً لجباية الضرائب في منطقة الفرات , و لقد جعلها هارون الرشيد عاصمة
لجند العواصم وولى عليها ابلغ محدثي بني العباس عبد الملك بن صالح , الذي
قاد حركة المحدثين في منبج حتى اشتهر العديد منهم أمثال سنان بن أبي بكر
الطائي و هشام بن خالد و ابن عبد الملك المنبجي , و شيد ابن صالح القصور و
المباني الضخمة والبساتين و جعل منبج جنة صغيرة و محطة هامة أمام الروم
شملت عملياتها العسكرية حتى جبال الأكراد غرباً و بادية منبج جنوباً و
حدود نهر جوك شمالاً , و كان ابن صالح أول مسؤول يعيد بناء منبج بعد أن
دمرها زلزال عام 748م حيث تهدمت البلدة بكاملها و ما بقي من معابدها , كما
تهدمت أهم الكنائس المشرقية السريانية و هي كنيسة اليعاقبة (نسبة إلى
المطران يعقوب البرادعي) , المصنوعة من خشب الأرز و كنيستا السيدة مريم و
القديس توما , و بقيت المدينة بعدها عامرة مقاومة أيام الحمدانيين حتى
تغلبت عليها الأحوال و أخذ فيها المحال ..... فغارات الروم عليها متكررة و
قاسية ووقعت على أسوارها حروب ضارية مما أدى إلى تهديمها ثم أسر الفارس
الشاعر أبو فراس الحمداني في إحدى هذه المعارك عام 962م فافتداه الروم إلى
قسطنطينة حيث كتب في سجنه روائع شعره "الروميات" وصف فيها جمال الطبيعة في
منبج و تغني بمياهها و بساتينها و حنينه إلى والدته و عتبه على ابن عمه
سيف الدولة أمير الدولة الحمدانية في حلب , و يعود الفضل أيضاً لذكر منبج
و طبيعتها الخلابة إلى الشاعر المنبجي البحتري الذي أبدع في وصف منبج و
كيف ألهبت طبيعتها و خضرتها مشاعره و أفكاره فأعطى أرق و أعذب وصف عن
الطبيعة و الجمال في شعره .
احتل الصليبيون منبج عام 110م و استعادها منهم صلاح الدين الأيوبي عام
1175م حتى جاءها المغول من الشرق و استولى عليها تيمورلنك و جعلها مقراً
لقيادته و تجميع قواته ثم هدمها كلياً قبل أن يتجه إلى احتلال حلب . و ظلت
منبج خربة ضامرة من كثرة الجمار الذي لحق بها طيلة خمسة قرون حتى جاءها
الشراكسة عام 1595م فبنوا من أنقاضها بلدة صغيرة جديدة خرجت من رفات الصمت
تدريجياً , لكننا لم نجد هذه المعلومة الجديدة إلا في مصدر تاريخي واحد و
كما لم تشر إلى هوية هؤلاء الشراكسة القادمين إلى منبج و لا إلى أية قبيلة
ينتمون أو من أين جاؤوا , و تقديري أنهم من أقارب و أنصار و جنود السلطان
الشركسي قانصوه الغوري الذي خسر معركة "مرج دابق" بجوار حلب 23/8/1516م
أمام الأتراك الذين أبعدوهم عن المدن الهامة ,و أصل اسم المعركة شركسي ,و
هو "مارج داأبئ" و هي صيحة الحرب لدى الشراكسة و تعني " يا أهل النخوة
تعالوا " و يقابلها بالعربية الله أكبر و بالروسية هورا .