** دمــــية سلمــــى **
كانت سلمى تضع دميتها الجميلة على ركبتيها و تجلس على الأرجوحة في الحديقة الخلفية من منزلها. كانت تأرجح ساقيها متابعة حركة الأرجوحة البطيئة و في عينيها نظرة حزينة. كانت الدمية قد فقدت ذراعها! حاولت إصلاحها لكن بدا أنها انفصلت بلا رجعة. فجأة قفزت من مقعدها و دخلت راكضة إلى المنزل و هي تنادي :
ـ أمي، أمي...
ـ نعم، سلمى... أنا في المطبخ
وصلت سلمى إلى المطبخ و هي تلهث حاملة في يدها اليمنى الدمية و في يدها اليسرى الذراع المفصولة.
ـ أمي يجب أن نأخذ سالي إلى الطبيب!
نظرت إليها أمها مبتسمة و رفعت حاجبيها في استغراب :
ـ إلى الطبيب؟ و لكنها دمية يا سلمى. الطبيب يداوي البشر و لا يمكنه أن يشفي دميتك...
عقدت سلمى ذراعيها أمام صدرها في غضب و هتفت :
ـ كيف يمكن للطبيب أن يشفي البشر و لا يمكنه مداواة دمية صغيرة!
كتمت الأم ضحكة أوشكت أن تفلت منها
ـ اتركي سالي الآن و سأشتري لك دمية جديدة في الغد
ـ لا أريد دمية جديدة! أريد سالي... لو مرضت أو حصل لي مكروه، هل كنت ستأتين ببنت أخرى و تتخلين عني؟
تأثرت الأم بكلام ابنتها فجلست و جذبتها لتجلس إلى دانبها و قالت في هدوء :
ـ لا تقولي هذا يا صغيرتي، لا يمكنني أن أتخلى عنك فأنت ابنتي حبيبتي، أنت لحمي و دمي... حين تمرضين آتي لك بكل أطباء العالم و أفعل ما بوسعي، أسهر إلى جانب سريرك طوال الليل و أدعو الله أن يشفيك. أنت كنزي الصغير...
كانت سلمى قد هدأت و قالت مغمغمة :
ـ فلماذا لا تريدينني أن أعتني بسالي إذن؟
ـ المشكلة هي أنه لا يوجد أطباء للدمى! لذلك لا يسعني أن أحضر أحدهم
وقفت سلمى متحمسة و هتفت :
ـ حين أكبر سأصبح طبيبة للدمى!
هذه المرة انفجرت الأم ضاحكة أمام موقف ابنتها البريء :
ـ حسن، في الانتظار ماذا سنفعل لسالي؟
حين عاد والدها من العمل كانت سلمى تجلس القرفصاء على عتبة الباب و قد احتضنت دميتها في حنان، و كانت ذراعها مربوطة بقطعة قماش إلى بقية جسمها.
وقفت لتعانقه في حب ثم عادت لتجلس في حزن
ـ ماذا في يدك يا سلمى؟
ـ إنها سالي يا أبي، فقدت ذراعها فأعادتها أمي و ربطتها بالقماش...
ابتسم الأب و هو يجلس إلى جانب ابنته :
ـ مسكينة، يجب أن نجري لها عملية جراحية!
ـ لا يا أبي، ألا تعلم أن الأطباء لا يداوون إلا المرضى من البشر؟ لم يتخصص أحدهم في أمراض الدمى بعد. لكنني سأفعل حين أكبر...
انفجر الأب ضاحكا و قبل ابنته البريئة و هو يقول :
ـ قبل أن تفكري في التخصص في أمراض الدمى تعالي سأريك شيئا
أمسك بيدها الصغيرة في كفه و دخلا قاعة الجلوس. فتح الأب التلفاز، و اتخذت سلمى مجلسها قريبا منه، تتابع حركاته في اهتمام. كانت نشرة الأخبار تنقل صور الجرحى إثر الاعتداء الأمريكي على العراق، و الجثث المتناثرة هنا و هناك مع نقص الأطباء و الدواء و الأماكن المحدودة في المستشفيات.
نظرت سلمى الصغيرة إلى الشاشة في فزع، فلم تكن في سنها تتابع الأخبار أو تهتم بها :
ـ ما الذي يحصل هناك يا أبي؟
ـ أرأيت يا بنيتي؟ هؤلاء بشر مثلنا، ليسوا دمى و لا ألعابا و لكنهم لا يجدون من يداويهم. مهددون بالموت يوميا. قد يفقدون ساقا أو ذراعا و لا يجدون حتى كيف يربطونها بخرقة بالية مثل سالي. سالي محظوظة يا ابنتي لأنها وجدتك و لأنك مهتمة بها. بعض البشر في العالم لا يجد اهتماما من أحد.
أطرقت سلمى في حيرة :
ـ و لكن أطباء البشر كثر، في حينا أكثر من ثلاث عيادات... فكيف لا يجدون من يهتم بهم؟
ربت الأب على رأس ابنته و قال :
ـ نحمد الله لأننا في نعمة، الطبيب قريب و الصيدلي الذي نجد عنده الدواء في نهاية الشارع، كل المرافق الضرورية متوفرة لدينا. لكن إخواننا في أماكن أخرى من العالم العربي و المسلم يعانون من نقص الغذاء فما بالك بالدواء. بعضهم لا يجد قوت يومه و يبات بمعدة خاوية
تناول الأب الجريدة التي وضعها على الطاولة و بحث فيها لبرهة قبل أن يتوقف عند صورة مؤثرة لطفل رضيع لا يتجاوز عمره بضعة أشهر تحمله والدته بين ذراعيها بصعوبة نظرا لدقة عظامه و ضعف بنيته. و قال معلقا :
ـ الآلاف يموتون في النيجر بسبب نقص المياه و الطعام. المساعدات التي تقدم لهم غير كافية بالمرة، و الأمراض تنتشر بسرعة شديدة... و عدد الأطباء هناك ليس كافيا
بدا الاهتمام على الفتاة التي لم يتجاوز سنها الخمس سنوات :
ـ ألا يمكننا مساعدتهم يا أبي؟
ـ بالطبع يمكننا المساعدة، بتقديم التبرعات و إرسال الغذاء و الدواء. كما أن بعض الأطباء يسافرون إلى هناك لتقديم العون و معالجة الجرحى. و نملك أيضا أن ندعو لهم أن يرحمهم و يعينهم على مصيبتهم.
رفعت سلمى كيفيها الصغيرتين في دعاء بريء :
ـ يا رب لماذا يتعذب أهل النيجر و العراق؟ يا رب ارحمهم و أعنهم... يا رب أرسل لهم من يحمل الماء و الطعام, يا رب أرسل لهم الأطباء و الممرضين... يا رب تقبل مني...
أنهت سلمى الصغيرة دعاءها ثم وقفت و في عينيها نظرة حماس و تحد :
ـ حين أكبر سأصبح طبيبة للبشر و سأسافر إلى العراق لأساعدهم
ابتسم الأب في تفاؤل وهو يقول :
ـ نأمل أن لا تنتظرك الحرب!
ـ سأسافر إلى النيجر أيضا... بل إلى كل مكان يحتاجون فيه إلى الأطباء
توقفت للحظات متفكرة :
ـ و لكنني لن أكون قادرة على مداواتهم جميعا بمفردي... يجب أن يكون هناك عدد كبير من الأطباء معي...
نظر إليها والدها مبتسما :
ـ نعم بالطبع، إن شاء الله سيكون هناك الكثيرون من أبناء جيلك محبون لغيرهم، و يفعلون ما بوسعهم لتقديم العون لإخوانهم.
أخذت سلمى دميتها و دخلت إلى غرفتها. وضعتها على الفراش و غطتها جيدا ثم خرجت راكضة إلى أمها
ـ أمي أمي...
ـ نعم سلمى أنا هنا، ما الأمر؟
وصلت سلمى و هي تقفز منفعلة :
ـ لا أريد أن تشتري لي دمية جديدة، أريد شيئا آخر... في الغد أريد أن نذهب إلى المحل الذي اشترينا منه سالي... و تشترين لي علبة التمريض الكاملة. رأيتها عنده في المرة الماضية!
نظرت إليها والدتها في إشفاق :
ـ هل ستمرضينها إلى أن تشفى؟
هزت سلمى رأسها نفيا :
ـ لا يا أمي، غيرت رأيي... لكنني سأتدرب على التمريض من الآن... لأنني حين أكبر سأصبح طبيبة ماهرة و أسافر إلى العراق أو إلى أي مكان آخر يحتاجون فيه إلى الأطباء لأعالج الناس مجانا...
سكتت للحظات، ثم أضافت و على شفتيها ابتسماتها العذبة :
ـ ثم بعد أن يشفى جميع البشر، سأفكر في الدمى!
نظرت الأم إلى طفلتها في فخر :
ـ نعم يا ابنتي طبعا، لك ذلك... غدا بإذن الله نشتري العلبة
قفزت سلمى من الفرح و ركضت لتبشر والدها...